بيروت.... مدينة من زجاج!
البروفسور نسيب حطيط*
كانت بيروت مدينة يحميها سور حجري يحتضن بوابات يغلقها الحراس ليلا لحمايتها .كانت مدينة محروسة وجدرانها من الحجر المستخرج من رحم الارض يحمي اهلها وسيادتها .ويصد عنها غزوات الغزاة وصفعات الطبيعة وكانت مدينة قوية لها الهيبة والوقار غير مكشوفة ..ثم تحوّلت لمدينة ذات بشرة زجاجية ...مدينة هشّة مكشوفة بلا اسرار ..ولا حماية ..تحطم وجهها حتى العواصف الضعيفة.. فكيف بالتفجيرات القوية ...
بعد الحرب الأهلية تعرضت بيروت لغزو العمارة الحديثة وعمادها الزجاج وانضمت الى اخواتها المدن الزجاجية في الخليج بالتلازم مع توالد الابراج العالية والزجاجية كالفطر المهجّن الغريب عنها التي تتلصص من نوافذها على شوارع المدينة وسكانها وتتباهى على احيائها العتيقة باضواءها التي لا تنقطع لتبدو كنجمة تتلالا بالضوء في عتمة احياء الفقراء ..
استقدم المستثمرون خرائطهم من ادراج الهندسة الغربية الي تحاول ان تجذب الشمس الى غرفها وفضاءها الداخلي في اطلالاتها النادرة حيث لا اجهزة تكييف حتى الآن في اغلب المنازل الأوروبية التي يغطيها الضباب ولا يفارقها المطر الا قليلا..لكن التبعية الفكرية والتقليد الأعمى الذي ربط الفكر الاستثماري الهندسي في الخليج الذي تلذعه الشمس وتقلّبه الصحراء على لظى جمرها وحرّها..واُستدرج اهلها الى ناطحات السحاب الزجاجية التي تضربها عواصف الرمال وتسجن روادها والمقيمين فيها في فرن "الشواء "اذا انقطعت الكهرباء لدقائق .ويتم تعذيب الناس في الأبراج الزجاجية ..!
صارت بيروت مدينة من زجاج بهندسة ومفاهيم غربية لا تحمل هوية لا وطنية ولا قومية صارت بلا ذاكرة وبلا تاريخ ،تم اجتثاث جذورها لصالح الربح المالي ، ولا تكاد تميز واجهتها البحرية عن واجهات دبي وابوظبي والسواحل الميركية ضمن العولمة المعمارية التي تلغي كل ما يرتبط بتاريخنا وبيئتنا وتقاليدنا ومجتمعنا وثقافتنا وصاررت سلوكياتنا ليس من اجل ما يخدمنا بل لأجل ما يجعلنا نشبه الآخر من الخارج وصولا لنتغير من داخلنا ولتصادر هويتنا طوعا وبإختيارنا والهرولة المسرعة غير الواعية بإتجاه الآخر دون نقاش حول ما يفيدنا او يصيبنا بالضرر ..وضمن خداع لأنفسنا اننا اذا تكلمنا الانكليزية او الفرنسية اصبحنا حداثويين وعصريين وصرنا .إنكليزاوفرنسيين واميركيين .حتى لا نتهم بأننا عرب ..!
ان العمارة وليدة بيئتها ولتلبية حاجات ساكنيها ومستخدميها وتخضع لظروف المناخ والعوامل الطبيعية والقدرات الوطنية والذاتية بحيث لا تعتمد على استيراد كل عناصرها وتصبح اسيرة الخارج من الزجاج والحديد والادوات الكهربائية والصحية والألمنيوم والخشب حتى البلاط وكل شيء ..
كيف يمكن لعمارة وطنية ان تستمر او ترمّم او حتى تامين صيانتها وهي تعتمد على التصنيع الخارجي وتستنفد كل العملات الصعبة وتخرجها من الوطن!
ان العمارة والتخطيط المديني يرتبط ايضا بالنظام السياسي والموقع الجيو-سياسي لاي بلد ومدى تعرضه للمخاطر والحروب والنزاعات الداخلية وبما ان لبنان لايزال يعيش على صفيح ساخن من التوترات الداخلية بين القوى السايسة والطائفية ونتيجة التداخل الديمغرافي فان كل المناطق والأحياء معرّضة لخسائر المعارك الداخلية وكذلك بالنسبة للمخاطر الخارجية المتمثلة بشكل اساس بالصراع العربي – الإسرائيلي الذي تصحّر لينحصر في الجبهة للبنانية- الفلسطينية بشكل جدي والجبهة السورية -الفلسطينية الى حد ما، اما بقية الجبهات فتحكمها اتفاقيات السلام والتطبيع وبالتالي صارت خارج مخاطر الحروب والمعارك ..
ان من خطّط للمدينة الزجاجية كان يرتكز على خطة السلام مع العدو الإسرائيلي او المهادنة والغاء حالة الحرب وبالتالي المراهنة على السلام والسلم والهدوء، فلم يبالي بالمخاطر واعتمد عمارة زجاجية هشّة لم تصمد عند انفجار او تفجير مرفأ بيروت ولن تصمد امام اي حرب داخلية او خارجية .
علينا اعادة النظر بالبرامج الأكاديمية وعمارتنا الوطنية ..وفق منظومة فلسفية
لمن نبني؟
اين نبني؟...كيف نبني..؟
*- رئيس قسم العمارة – الجامعة البنانية
-رئيس الفرقة البحثية للتنظبم المدني – المعهد العالي للدكتوراة